عن قوله تعالى : ( أوكظلماتٍ في بحرٍ لجيِّ يغشاه موجٌ من فوقهِ موجٌ من موج من فوقه سحب . . ) شرح وتحليل

هذه الآية يشبّه الله فيها أعمال الكفار بالظلمات المتراكبة بعضها فوق بعض وقد حصل في هذه الآية  خلاف طويل عريض بين مجموعة من العلماء والخلاف يدور حول سؤال مهم جداً يحتاج إلى إجابة وهو :
هل يقبل تأويل بعض المعاصرين للآية بسبب اكتشافات علمية لاتصرف مضمون الآية بشكل عام عن كون القرآن معجزاً ؟
الجواب على ذلك : يكون بعد أن نتناول كلام بعض المفسرين ماضياً وحاضراً وأشهر من تناول الآية هذه من المعاصرين الشيخ الزنداني وعندما نرجع فيها إلى تفسير السعدي مثلاً وهو كتاب " تيسير الكريم المنان " فقال عند هذه الآية :( والمثل الثاني لبطلان أعمال الكفار (كظلمات في بحر لجي . . ) بعيد قعره طويل مداه ( يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض . . ) ظلمة البحر اللجي ثم فوقه ظلمة الأمواج المتراكمة ثم فوق ذلك ظلمة السحب المدلهمة ثم فوق ذلك ظلمة الليل البهيم " انتهى نجد كلامه واضحاً .
وهنا أكتب لكم مقالاً كتبه الشيخ عبدالكريم الحميد في كتابه ــ الفرقان في بيان اعجاز القرآن ــ حول هذه الآية متناولاً كلام الزنداني بالشجب والإنكار عليه ـ عفا الله عنهما ـ فقال :
" قال صاحب كتاب ( توحيد الخالق ) ـ يقصد الشيخ الزنداني ـ في الآية قال : كما كشف العلم الحديث أن هناك موجاً داخلياً يغشى البحر وهو أطول وأعرض من الموج السطحي وقد تمكن الباحثون من تصوير هذا الموج بالأقمار الصناعية أيضاً والقرآن يذكر هذه الحقيقة قبل قرون .
وقال قبل ذلك : الظلمات التي في البحار العميقة والأمواج التي تغشاها . .  كشف العلم الحديث أن قاع البحار العميقة ـ كثيرة الماء ( البحر اللجي ) ظلمات شديدة حتى أن المخلوقات الحية تعيش في هذه الظلمات بدون آلات بصرية وإنها تعيش بواسطة السمع ولا توجد هذه الظلمات الحالكة في ماء البحر الذي يحيط بالجزيرة العربية . انتهى
فيقول الحميد : " وهذا أيضاً من عجائب الإحالات ولا شك أنه تأويل لكلام باطل فالله سبحانه لايخاطب بمثل هذا , ولقد كاد ابليس هؤلاء بما خاضوا به من هذيان لصرف معاني كلام الله عن وصرف التفكر فيها والإنتفاع إلى الإلتفات إلى الكفار والتعظيم لهم ولعلومهم وازدراء السلف وتنقصهم .
فهذه الآيات العظيمة ضرب الله فيها مثلاً لأعمال الكفار فوصفها بالسراب الذي يظنه رائية ماءً فإذا وصل إليه لم يجد شيئاً لأن اعمال الكفار حابطة بالكفر فهذا مثل والمثل الثاني لأعمال الظلمات في البحر العميق عظيم الموج فتتّفق ظلمة الليل وظلمة الموج وظلمة السحاب فهي ظلمات بعضها فوق بعض وقد خاطب الرب سبحانه عباده بما يعرفونه ويدركونه لاسيما الأمثال فإن المراد من ضربها التفكر والإعتبار والعبور من صورة المثل إلى حقيقة المعنى المراد " .
ثم يقول : والذي ذهب إليه صاحب كتاب ـ توحيد الخالق ـ في تفسيرالقرآن بما يشبه الأحاجي بما ينزَّه كلام الله عنه خطره عظيم , وهولا يقرب فهم القرآن بل يصد عن فهمه بتغيير الفطرة التي فطر عليها عباده , فهو سبحانه يخاطبهم بما يدركونه بحواسهم ويعرفونه بل ويشتركون في معرفته , وهل ينزل الله على نبيه قرآن يتلى أربعة عشر قرناً معاني آيات الخلق فيه كالطلاسم والألغاز لاتعرف حتى جاء هذا العصر فظهرت معانيه على أيدي المعطلة ومقلديهم ؟
هذا منكر من القول وفيه من استهجان السلف وتعظيم الكفار ماهو ضلال مبين .
والذي يُقارن بين ماأذكره من تفسير السلف لكلام الله وما أنقله من تفسير المتأخرين يظهر له الفرق بين الهدى والضلال إلا مافسدت فطرته .
قال قتادة : (لجيّ) هو العميق (لم يكد يراها) أي لم يقارب رؤيتها من شدة الظلام , فهذا مثل الكافر الجاهل البسيط المقلد الذي لايعرف حال من يقوده ولا يدري أين يذهب بل كما يقال في المثل للجاهل : أين تذهب ؟ قال : معهم . قال فإلى أين يذهبون ؟ قال : لاأدري .
وقال أبي بن كعب في قوله تعالى ( ظلمات بعضها فوق بعض ) : فهو يتقلب في خمسة من الظُّلَم : فكلامه ظلمة وعمله ظلمة ومدخله ظلمة ومخرجه ظلمة ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات إلى النار .

هل يحيل الله عباده إلى هذه الأشياء الدقيقة في فهم كتابه بحيث لايفهم القرآن إلا بصواريخ تجوب الفضاء وغواصات تذهب في أعماق البحار ومناظير تقرّب البعيد وتكبّر الصغير ثم يجعل مفاتيح ذلك مع أعدائه يكتشفونه في آخر الأمة ؟ .
هذا والله من عجائب وقتنا بل ومن ثمار ظلماته موجٌ في قعر المحيطات العميقة تكتنفه ظلمات اكتشفه الباحثون ولم يعرفه الأولون .
وأقول : هذا الكلام عليه مأخذ سيأتي البيان عليه في آخر هذا الشرح  .

ثم أخذ الشيخ ينقد على الزنداني في آيات أخرى فيقول :
" كذلك قوله تعالى :( كأنما يصّعَّد في السماء ) يوجد فوق الغلاف الجوي فضاء خالٍ من الهواء فالإنسان إذا وصل إليه يجد صعوبة وضيق أما أن يقال ببساطة : صفة الكافر في حال سماعه للحق أو انتفاعه به كمن يحاول الصعود إلى السماء فهو يروم مالا يقدر عليه فهو في ضيق وشدة وهو على الأرض كذلك قوله تعالى : ( وجعلنا من الماء كل شيءٍ حي ) أحياءٌ لاترى بالعين لاتعيش بدون ماء .
أما أن يقال معنى الآية أن أصل الأحياء من الماء فـالشأن كل الشأن ماقالت حذامِ ـ هذا مثل ضربه ـ كذلك ( وآيةٌ لهم الليل نسلخُ منه النهار ) والحاجزين بين البحرين والمجرات أبعاد خيالية والذرات التي لاتُرى وغير ذلك إذا تتبعته وجدت إحالات على تقدير صحتها فهي كالطلاسم وهذا لايليق بكلام الله وفهم معانيه فقد جعله سبحانه هدىً وشفاء لاأحاجي وطلاسم مفاتيحها بأيدي معطلة دهرية يخرجون في آخر عمر الأمة .
ثم يستأنف ويقول : إن المقلدة يدعون الواضح الجلي الهين السهل الصحيح الذي يدركه كل أحد إلى شيء على تقدير وجوده خفي صعب باطل لم يُرده الله بكلامه لايدرك إلا بالخيال .
وصاحب كتاب توحيد الخالق يبالغ بتعظيم هذه العلوم والكشوفات مما جعل ينسب إلى الله وإلى نبيه الباطل فإنه يقول في موج وظلمة بحره المزعوم ( موج من فوقه موج ) :بل وإلى قبل عام 1900م كان الناس جميعاً لايعرفون إلا موجاً واحداً في البحار هو ذلك الموج المشاهد على سطح الأرض فجاء
البحارة الإسكندنافيون ليكتشفوا للعالم حقيقة كانت مخبوءة في أعماق البحار تللك الحقيقة هي أنه يوجد في أعماق البحار نوع آخر من الموج وأنه يقذف بالغائصين فيه كما يقذف الذي فوق بالسابحين عليه , غير أن الله قد أجرى هذه الحقيقة على لسان النبي الأمي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي لم يعرف بحراً طوال حياته قبل نيّفٍ وأربعة عشر قرناً من الزمان .
ثم يكمل كلامه عن صاحب كتاب توحيد الخالق فيقول : قال تعالى :( أوكظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض ) النور آية 40  فتأمل كيف تنص هذه الآية على هذه الحقيقة وكيف تؤكد أنها طبقات بعضها فوق بعض ؟ فمن أين لمحمد علمٌ بعلم البحار الذي جهله البشر أجمعون في عهده إلى قبل 76 عاماً ؟ انتهى نقله .
يعلق الشيخ الحميد فيقول :" انظر كيف أن صاحب كتاب توحيد الخالق يقرر أن موجه وظلماته التي في أعماق البحار هي المراد بالآية فهو يقول : ( غير أن الله أجرى هذه الحقيقة على لسان النبي الأمي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي لم يعرف بحراً طوال حياته قبل نيف وأربعة عشر قرناً من الزمان ) وانظر قوله : ( فمن أين لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ علمٌ بعلم البحار الذي جهله البشر أجمعون من عهده إلى قبل  76عاماً ) فنسب موج وظلمة خيال المعطلة إلى أنه معنى الآية , وأن الله أجرى هذه الحقيقة على لسان نبيه , وهذا كذب على الله وعلى رسوله , وقد تقدم أن المراد الموج المشاهد وظلمة الليل وظلمة السحاب بلا تكلف " . انتهى كلام الشيخ الحميد وإليك التحليل التالي :
ــ أولاً ــ  : يجب عدم التشنيع الشديد وقذف الغير بالتعطيل قبل التثبت من ذلك فالشيخ الزنداني عُرف عنه سلامة العقيدة وهو لم يتكلم بذلك صراحة ولا تأويلاً فيجب احسان الظن بالغير وعدم التشنيع عليه بهذه الطريقة ورميه بعدة أوصاف كاستهجان السلف وتعظيم الكفار وهو يريد دعوة الغير إلى التفكر في آيات الله مسلمهم وكافرهم لكي ينال الأجر والمثوبة (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة  . . )الآية .
ــ ثانياً ــ : لايلزم من اكتشاف آيات جديدة بينَّها القرآن ولم يدركها بعض السلف أن هذا احتقار للسلف أو لذات الرسول صلى الله عليه وسلم وتنقص له أبداً فهذا كفر صريح ولاأحد يقول بهذا ممن صلحت نيته وزكت سريرته ولكن كل مافي الأمر أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلم ذلك علماً حقيقياً والسلف الصالح كذلك ويعرفون كيف يحدث ولكنهم لم يروه , مثل قضية الموج الذي في أسفل البحار وقد ثبت عن عمر أنه قرأ على المنبر قوله تعالى : (وفاكهة وأبّا ) فقال : " الفاكهة معروفة فماهو الأب ؟ ثم قال : " إن هذا تكلف " فما عرف الأبّ رضي الله عنه وقد يكون عرفه فيما بعد .
ــ ثالثاً ــ : القرآن معجز ومتجدد أُنزل للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وللسلف والخلف والأجيال القادمة فلو كل مافيه قد وُقف عليه وشوهد كله لما كان فيه اعجاز فهو معجز لجميع الأمم القادمه فدل ذلك أن هناك من المعجزات علمها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والصحابة والسلف تمام العلم ولكنهم لم يقفوا عليها فلا مانع أن تحدث في العصور المتأخره .
ــ رابعاً ــ : الله سبحانه وتعالى أنزل في معرض كتابه العزيز قوله تعالى في سورة فصلت : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق . . . ) والسين هنا تدل على المستقبل وقد ورد نقل الشوكاني في فتح القدير عن ابن زيد في تفسير الآية : " في الآفاق آيات السماء وفي أنفسهم حوادث الأرض "  ونقل عن عطاء أيضاً قوله " أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار والرياح والأمطار والرعد والبرق والصواعق والنبات والأشجار والأحجار والبحار وغير ذلك " وفي أنفسهم " من لطيف الحكمة وبديع الصنعة " وإن كان بعض السلف خصصها بقوله كمجاهد " أنها في فتح القرى التي يسّر الله فتحها لرسوله وللخلفاء من بعده في آفاق الدنيا شرقاً وغرباً " ولكن من القواعد التي اتفق عليها المفسرون أن [ العبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب ] فتحمل على هذا وهذا ولادليل على التخصيص خصوصاً أن المراد بقوله (يتبين لهم أنه الحق ) القرآن على الراجح فدل على أن اعجازه دائم لاينقطع أبداً .
ــ خامساً ــ : في كلامه عفا الله عنه : أن العبرة من ضرب الأمثال التفكر والإعتبار فهذا معلوم ومعروف
وأما قوله " والعبور من صورة المثل إلى حقيقة المعنى المراد " هذا لايلزم من ذلك وقوعه بجميع تفاصيله وجزئياته لأن بعض الأمثال الغرض منها العظة والعبرة أما أن يتصور كيف يقع ذلك ؟ وكيف يكون ؟ ولابد من رؤيته ؟ حتى تتم العبرة بذلك فبهذه الطريقة لن يعتبر أحدٌ أبداً والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعظم الناس تقوى وأشدهم خشية ولم يركب بحراً ولا سفينة طوال حياته ومع ذلك كان أكثر الناس اعتباراً بهذا المثل بلا منازع وهذا ملحظٌ وفائدة عظيمة لمن تبصر في ذلك .
ــ سادساً ــ : أن قوله تعالى : (موج من فوقه موج ) يلزم منه وجود موجان الموج الأول الذي في داخل البحار والموج الثاني الذي يرى فوق سطح البحر وليس الذي على سطح البحر إلا موج واحد يُرى وليس موجان وإلا لم يكن في الآية اعجاز  والظلمة كلٌ يراها ويشاهدها وليس فيها اعجاز , وما المانع أن يكون هناك موج داخلي مادام أنه اكتشف في داخل البحر فضرب المثل به أخوف للمعتبر وذلك أنه يخاف من جهة السُفل ويخاف من جهة السطح ويخاف من جهة العلو وذلك أنكى له في العذاب , ولو فرضنا أنه موج واحد يتتابع لقيل يجمع بينهما ولا حصر في الآية . 
ــ سابعاً وأخيراً ــ :   وبهذا يقبل تأويل بعض المعاصرين للآيات التي تبين اكتشافات علمية حديثة لاتصرف عن مضمون الآية بشكل عام ويمكن الجمع بين التفسير السلفي والتفسير المعاصر علماً أن التفسير في أصول الدين وثوابت الشريعه والأحكام وهذا ـ جملة القرآن ـ لايقبل فيه إلا التفسير السلفي فقط لاغير أو معناه في التفسير المعاصر , وكلما كان الرجوع للتفسير السلفي في كل شأن فهو أوثق وأضبط وأحكم لاشك في ذلك ولكن لايرد التفسير المعاصر بالجلمة مادام أن فيه توافق ولو بوجه من الوجوه فكما أسلفنا أن العبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب في الأحكام والمعاني , , , , ,  والله تعالى أعلم .   

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

محمد بن ثنيان ( الجد الأكبر لعائلة الثنيان ) توثيق تاريخي

أحاديث لايعرفها الكثير من الناس

ماهو شاهين ؟ ؟ الحاسب العملاق shaheen super computer